سورة الزمر - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)}.
يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب- وهو القرآن العظيم- من عنده، تبارك وتعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192- 195].
وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42، 41].
وقال هاهنا: {تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} أي: المنيع الجناب، {الْحَكِيمِ} أي: في أقواله وأفعاله، وشرعه، وقدره.
{إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي: فاعبد الله وحده لا شريك له، وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد؛ ولهذا قال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله، وحده لا شريك له.
وقال قتادة في قوله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} شهادة أن لا إله إلا الله. ثم أخبر تعالى عن عُبّاد الأصنام من المشركين أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي: إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به.
قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: {إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة.
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} [النحل: 74]، تعالى الله عن ذلك.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: يوم القيامة، {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: سيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41، 40].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي: لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله، وقلبه كفار يجحد بآياته وحججه وبراهينه.
ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير، وعيسى فقال: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي: لكان الأمر على خلاف ما يزعمون. وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه، بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه، كما قال: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، كل هذا من باب الشرط، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم.
وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي: تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي كل شيء عبد لديه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه الذي قد قهر الأشياء فدانت له وذلت وخضعت.


{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}
يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض، وما بين ذلك من الأشياء، وأنه مالك الملك المتصرف، فيه يقلب ليله ونهاره، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي: سخرهما يجريان متعاقبين لا يقران، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، كقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: 54] هذا معنى ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى} أي: إلى مدة معلومة عند الله ثم تنقضي يوم القيامة. {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي: مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه.
وقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، وهو آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وهي حواء، عليهما السلام، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].
وقوله: {وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي: وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143]، {وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144].
وقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي: قدركم في بطون أمهاتكم {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي: يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
وقوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} يعني: ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة- التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد- وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد وغيرهم.
وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي: هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي: فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يُذْهَبُ بعقولكم؟!.


{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}
يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى: أنه الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال موسى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8].
وفي صحيح مسلم: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا».
وقوله {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي: لا يحبه ولا يأمر به، {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي: يحبه منكم ويزدكم من فضله.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل نفس عن نفس شيئا، بل كل مطالب بأمر نفسه، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: فلا تخفى عليه خافية.
وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي: عند الحاجة يضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]. ولهذا قال: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي: في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].
{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: في حال العافية يشرك بالله، ويجعل له أندادا. {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي: قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه: تمتع بكفرك قليلا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، كقوله: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30]، وقوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8